بقلم : أ – حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .
بعد عقود من الانتظار، تفتح مصر أخيرا أبواب متحفها الفرعوني الضخم عند سفح الأهرامات ، لتمنح العالم نافذة على أقدم حضارة عرفتها الإنسانية ، لتعلن في الوقت نفسه انطلاق مرحلة جديدة في سياحتها الثقافية والاقتصادية.
يقف رمسيس الثاني شامخا عند المدخل، بارتفاع يفوق أحد عشر مترا ووزن يقارب ثلاثا وثمانين طنا ، كأنه حارس البوابة بين الماضي والمستقبل. يلفّه الضوء المتسلل من سقف زجاجي شاهق، في مشهد يختصر فخامة المتحف المصري الكبير الذي أُطلق عليه بالإنجليزية Grand Egyptian Museum (GEM)، والذي تحوّل منذ الآن إلى درة تاج التراث المصري ومفخرة للعالم و لعصره الحديث . لكن وراء هذا الافتتاح قصة طويلة ، بدأت منذ اكتشاف التمثال في موقع منف عام 1820، ثم نقله إلى قلب القاهرة في عهد جمال عبد الناصر عام 1955 كرمز لنهضة الأمة المصرية .
وبعد نصف قرن تقريبا ، خُلع التمثال من وسط المدينة عام 2006 ليُرحّل إلى موقع المتحف الجديد في الجيزة ، وسط مشهد وداع مؤثر شارك فيه الآلاف من المصريين الذين رأوا فيه قطعة من ذاكرتهم تُنتزع من الشارع إلى الصرح السياحي.
اليوم، يحتضن المتحف هذا التمثال كتحية وفاء للتاريخ ، وكتجسيد لرؤية معمارية تمزج بين الحداثة وروح الحضارة القديمة .
تتدرج القاعات عبر مستويات وسلالم فخمة ، تزيّنها تماثيل الملوك والملكات والآلهة ، في مسار متكامل يعرض قصة مصر منذ توحيد القطرين عام 3150 قبل الميلاد حتى نهاية العهد البطلمي.
يُطلّ الزائر من أعلى الدرج على مشهد بانورامي للأهرامات الثلاثة ، خوفو وخفرع ومنقرع ، في تداخل فريد بين المتحف والموقع الأثري.
يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية نُقلت بعناية من المتحف القديم بميدان التحرير، تُعرض نصفها في قاعات ضخمة موزّعة على ثلاثة محاور: المجتمع، الملوكية، والمعتقدات.
أما القطع الباقية، فستُحفظ في مخازن ومختبرات حديثة بتمويل جزئي من جولة عالمية لمعرض توت عنخ آمون.
تُعدّ مقتنيات الفرعون الذهبي توت عنخ آمون أبرز ما في المتحف ، إذ يُعرض نحو 4500 من كنوزه في قاعتين فخمتين خُصّصتا له بالكامل.
أراد القائمون على المشروع أن يعيش الزائر تجربة الاكتشاف كما عاشها عالم الآثار البريطاني هاوارد كارتر عام 1922، في عرض يحاكي جنازة الملك الصغير ويعيد الحياة إلى لحظة الخلود.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى، بل مشروع وطني ضخم بدأ في تسعينيات القرن الماضي خلال حكم حسني مبارك، بتكلفة تجاوزت 3 مليارات دولار. ورغم تعاقب الأزمات السياسية، ظل المشروع قائما حتى اكتمل في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي ، ليُصبح اليوم أكبر متحف أثري في العالم على مساحة 50 هكتارا .
تقول السلطات إن المتحف سيستقبل أكثر من 10 آلاف زائر يوميا ، ضمن خطة استراتيجية لتعزيز السياحة الثقافية، إذ تسعى مصر إلى مضاعفة عدد زوارها ليصل إلى 30 مليون سائح بحلول عام 2030.
في هذا الإطار، أُنشئ مطار جديد يحمل اسم مطار أبو الهول الدولي (Sphinx Airport) عام 2022، يربط مباشرة بين المتحف والعالم عبر رحلات منخفضة التكلفة ، إلى جانب مشاريع فندقية فاخرة في محيط الأهرامات وسقارة.
غير أن المتحف لا يرمز فقط إلى النهضة السياحية بمصر ، بل إلى رسالة سياسية وثقافية أرادت القاهرة توجيهها للعالم : أن مصر، رغم تحدياتها الاقتصادية ، قادرة على الحفاظ على إرثها وبناء مؤسسات حضارية تنافس أعرق المتاحف العالمية. وكما قال عالم الآثار زاهي حواس: ” المتحف ليس مسألة أمواله، بل مسألة احترام للتاريخ ، ورسالة من مصر إلى العالم بأنها ما تزال مهد ا لحضارة وحارسة الذاكرة الإنسانية ” .
يرى مراقبون أن المتحف يشكّل أيضاً أداة دبلوماسية ناعمة، تستخدمها مصر لإبراز قوتها الثقافية وتعزيز صورتها الدولية. فكما خلد الفراعنة أسماءهم على جدران المعابد ، تحاول مصر الحديثة أن تخلّد اسمها على خريطة العالم الثقافي من خلال هذا الصرح الاستثنائي الذي يمزج بين الفن والهوية والسياسة.
هكذا، وبعد قرنين من اكتشاف تمثال رمسيس، تعود الحضارة المصرية لتتكلّم من جديد، ليس عبر الأحجار فقط ، بل من خلال رؤية معاصرة تجعل من المتحف المصري الكبير جسرا بين الماضي المجيد والمستقبل الطموح ، ورسالة مفتوحة إلى الإنسانية : أن ذاكرة التاريخ لا تموت، بل تتجدد كلما نهضت أمة لتروي حكايتها من جديد.



