بقلم : أ – حذامي محجوب ( رئيس التحرير) .
في التاسع والعشرين من سبتمبر، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرسوما اعتبر فيه أن أي هجوم على قطر يُعدّ تهديدا مباشرا للأمن القومي الأميركي . قد يبدو القرار للوهلة الأولى إجراء بروتوكوليا ، لكنه في الواقع علامة فارقة في مقاربة واشنطن لعلاقاتها في الشرق الأوسط.
فهو لا يعبّر فقط عن حماية حليف ، بل عن إعادة صياغة لمفهوم التحالف نفسه : من علاقة تبعية وحماية إلى شراكة استراتيجية تقوم على المصالح المتبادلة وتوازن النفوذ.
ورغم أن المرسوم لا يحمل الصفة الإلزامية التي تتمتع بها المعاهدات الدفاعية، إلا أنه يكتسب دلالة رمزية عميقة. فهو يعكس إدراكا أميركيا جديدا بأن قطر لم تعد مجرّد دولة صغيرة تبحث عن مظلة أمنية ، بل أصبحت رقما وازنا في معادلة التوازن الإقليمي والدبلوماسية الدولية.
فقد نجحت الدوحة، خلال العقد الأخير، في ترسيخ حضورها كفاعل مرن يجمع بين الوساطة والانفتاح، وبين الحذر السياسي والقدرة على التأثير الهادئ .
أدركت واشنطن أن قطر لم تعد طرفا يُستدعى عند الحاجة، بل شريكا لا غنى عنه في الملفات الحساسة ، من أفغانستان إلى غزة .
ومع كل أزمة جديدة، تثبت الدوحة أنها قادرة على الجمع بين الخصوم دون أن تفقد حيادها أو موقعها ، وهو ما جعلها في قلب هندسة الحلول الدبلوماسية في المنطقة.
جاء المرسوم الأميركي في لحظة مشحونة، أعقبت الهجوم الإسرائيلي على مقرّ تابع لحركة حماس في الدوحة ، في حادثة هزّت العلاقات بين واشنطن وتل أبيب.
فغضب قطر واستياؤها من الخرق دفع الإدارة الأميركية إلى التدخل السريع ، مدركة أن تهدئة الموقف تمر عبر احترام الدور القطري و تثمينه .
وهنا كان تدخّل ترامب حاسما ، إذ ألزم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتقديم اعتذار رسمي لقطر، أولا عبر اتصال مباشر، ثم علنا أمام الإعلام .
لم تكن تلك الحادثة تفصيلا بروتوكوليا ، بل رسالة واضحة : لم تعد واشنطن في موقع المانح، بل في موقع من يسعى للحفاظ على شراكة استراتيجية متوازنة .
على المستوى الأعمق، يعكس هذا المشهد تحوّلا في نظرة الولايات المتحدة إلى شركائها في المنطقة.
فزمن الإملاءات الأحادية انتهى، وحلّ مكانه وعي جديد بأهمية الشركاء الذين يتمتعون بالمصداقية والقدرة على التوسط بين الخصوم . وقطر، بشبكة علاقاتها المتعددة وقوتها الناعمة وإعلامها العابر للحدود، تحولت إلى مركز ثقل دبلوماسي يصعب تجاوزه .
ولا يمكن فصل هذا التطور عن التحول البنيوي في السياسة الخارجية الأميركية، التي تتجه نحو نمط جديد من العلاقات يقوم على ” الضمانات السياسية ” بدل الالتزامات العسكرية الصارمة. وهو ما يفسّر كيف نجحت قطر في توظيف أدواتها الناعمة وموقعها الجغرافي ودبلوماسيتها الذكية لتصوغ لنفسها دورا يفوق حجمها الجغرافي ، ويمنحها نفوذا مؤثرا في ميزان القوى الإقليمي.
لقد فهمت الدوحة مبكرا أن القوة لم تعد حكرا على الجيوش، بل يمكن أن تُبنى عبر الثقة، والوساطة، والإعلام، والقدرة على التواصل مع الجميع دون انحياز. فبينما تتبدّل التحالفات وتتشابك المصالح، تبقى قطر لاعبا حاضرا بثبات وهدوء، تمارس نفوذا ناعما لكنه فعّال.
إن خطوة ترامب ، سواء في المرسوم أو في فرض الاعتذار الإسرائيلي ، لم تكن مجاملة دبلوماسية، بل إقرارا استراتيجيا بمكانة قطر الجديدة في معادلة الاستقرار الإقليمي .
فالشراكة مع الدوحة لم تعد خيارا سياسيا ، بل ضرورة تفرضها موازين القوة الجديدة في الشرق الأوسط.
في الخلاصة، لا يمكن النظر إلى هذا التطور كحدث عابر، بل كإشارة إلى مرحلة دولية جديدة تُقاس فيها القوة بقدرة الدول على التأثير وبامتلاكها مفاتيح الحوار حين تُغلق الأبواب.
وبهذا المعنى، لم تعد قطر مجرّد حليف صغير ضمن المظلة الأميركية، بل شريك استراتيجي يساهم في إعادة رسم خريطة التوازن في الشرق الأوسط الجديد.



