بقلم : أ – حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .
في الثاني والعشرين من سبتمبر، غابت إسرائيل عن الجلسة الخاصة التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة حل الدولتين.
هذه الجلسة تحولت إلى محطة مفصلية في المشهد الدولي بعدما استغلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليعلن رسميا اعتراف بلاده بدولة فلسطين.
لكن الصورة الأبرز لم تكن في الكلمات والخطابات، بل في الغياب الصارخ : مقعد إسرائيل الفارغ، الذي بدا كمرآة تعكس عمق العزلة التي أخذت تتسع حولها على الساحة العالمية ، نتيجة حرب مفتوحة على غزة بلا أفق سياسي ، وسياسات استيطانية متواصلة في الضفة الغربية.
هذه العزلة ليست نتيجة حتمية ، لكنها مرشحة للتفاقم كلما غابت فرص الحلول السياسية ، كلما تعمّق اليأس لدى الفلسطينيين من إمكانية تحقيق دولتهم ، وازداد تصلّب الموقف الإسرائيلي الرافض لأي تنازل.
مع ذلك يبقى حل الدولتين ، رغم كل التحديات ، الخيار الأقل كلفة مقارنة بالسيناريوهات المظلمة : من عمليات تهجير جماعي قد ترقى إلى التطهير العرقي ، إلى إبقاء الفلسطينيين في وضعية شعب محاصر بلا أفق، معزول داخل كانتونات أشبه بمناطق نازحين دائمة.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حاول أن يقلب هذه العزلة إلى مصدر قوة ، فصوّر إسرائيل لمواطنيه على أنها ” أثينا الديمقراطية ” في قيمها، و ” إسبرطة العسكرية ” في قوتها. لكن الواقع يكشف صورة مختلفة تماما : إسرائيل أقرب إلى نسخة مشوّهة من إسبرطة، دولة تعيش على منطق القوة لكنها بلا تحالفات إقليمية راسخة ولا عمق استراتيجي ، وتستمد بقاءها من دعم أمريكي لا ينقطع، يتجسد في جسور جوية من القنابل والأسلحة.
ولتبرير هذه الوضعية المأزومة ، لجأ نتنياهو إلى خطاب تبسيطي يحمّل المسؤولية لقوى خارجية : نفوذ الأقليات المسلمة في أوروبا ، أو ” حملات التضليل الرقمية ” المزعومة المموّلة من قطر والصين .
لكن الأرقام جاءت لتدحض هذه السردية ، فاستطلاع مركز ” بيو ” للأبحاث ( يونيو 2024 ) أظهر أن 79% من اليابانيين و74% من الأستراليين ينظرون إلى إسرائيل بصورة سلبية أو سلبية جدا، رغم غياب تأثير الجاليات المسلمة أو النفوذ القطري – الصيني المباشر في تلك البلدان.
وفي المقابل، جاءت صورة إسرائيل أقل تدهورًا في فرنسا بنسبة 63%، رغم أن هذا البلد يحتضن واحدة من أكبر الجاليات المسلمة في أوروبا. هذه المفارقة وحدها كافية لتفنيد خطاب نتنياهو، وإظهار طابعه الدعائي أكثر من كونه تحليلا سياسيًا جادا.
هذا التراجع في صورة إسرائيل عالميا يتناقض جذريا مع ما روّج له نتنياهو قبل عام فقط في الأمم المتحدة، حين عرض “خريطة شرق أوسط جديد” قائلاً إن مسار التطبيع مع دول عربية، وفي مقدمتها السعودية، سيؤدي إلى طيّ القضية الفلسطينية من الأجندة الدولية. لكن ما حدث هو العكس: القضية الفلسطينية استعادت مركزيتها، فيما إسرائيل تواجه اليوم موجة غير مسبوقة من الانتقادات والضغوط، مع تزايد الحديث عن عقوبات محتملة إذا واصلت تحديها للمجتمع الدولي ومضيّها في سياسات الاحتلال.
يبقى السؤال الحاسم : هل ستواصل إسرائيل المضي في وهم ” إسبرطة العظمى ” متكئة على القوة العسكرية وحدها، أم أن قيادتها ، ومعها شعبها ، ستدرك أن العزلة ليست قدرا ، وأن المستقبل الآمن لا يمكن أن يُبنى إلا عبر تسوية سياسية عادلة تعيد للفلسطينيين حقوقهم المشروعة وتضمن للإسرائيليين أمنهم في إطار اعتراف متبادل وسلام حقيقي؟.



