بقلم: حذامي محجوب.
في عالم تتقاطع فيه الموسيقى مع العاطفة، وتختلط فيه أضواء الركح بنبض الجماهير، يبقى الفنان في قلب المشهد، تارة يُحتفى به وتارة يُجرّ إلى منصة الاتهام. هذا تمامًا ما حدث مع الفنان اللبناني راغب علامة في مناسبتين، وفي بلدين، لكن بردود فعل مختلفة، كاشفة عن زيف بعض المقاييس التي تُكال بها الأخلاق والحرية.
في صيف 2024، غنّى راغب علامة في تونس، فأثارت معجبة الجدل بعد أن صعدت إلى الركح، ترقص وتتمايل إلى جانبه، وسط أجواء احتفالية خالصة. لكن المشهد تحوّل سريعًا إلى ساحة من التنمر والسخرية. لم تكن سهام النقد موجهة للفنان وحده، بل للمرأة التونسية ككل، وكأنها ارتكبت جريمة جماعية. اجتاحت التعليقات المشهد، تتهم وتُحقّر وتُسقط حادثة فردية على مجتمع كامل، متناسية أن ما حصل لم يكن أكثر من لحظة طرب اجتاحها الوجد، ولا أحد تضرّر منها.
اللافت أن لا جهة رسمية تدخلت، لا من باب التنبيه ولا من باب التنظيم، بل تُركت الحادثة تمرّ دون مساءلة، لا للمُنظمة ولا للمُغني، لكن الهجوم وُجه صوب المرأة، كأنها الكائن الوحيد المتهم حين تَضعف حدود الانضباط أمام وهج نجم.
ولأن التاريخ يعيد نفسه بتفاصيله، صعد راغب علامة بعد أشهر قليلة إلى مسرح في مصر. وبين الموجات البشرية الصاعدة نحو الركح، تجرأت إحدى المعجبات على تقبيله بشغف، ليبادلها التحية بقبلة، وسط تصفيق الجمهور. لكن الفارق هذه المرة أن نقابة المهن الموسيقية المصرية لم تترك المشهد يمرّ. أصدرت بيانًا أعلنت فيه فتح تحقيق مع الفنان، بل وصل الأمر إلى منعه من إحياء حفلات فنية مستقبلًا في مصر، بدعوى “حماية الذوق العام”، ليتحوّل الفضاء الفني إلى ساحة ضبط وربط، وكأن الرغبة في التنظيم تمرّ عبر شيطنة الفنان، لا عبر تقنين آليات التنظيم والتفاعل.
في الحالتين، كان الفنان في موقع دفاع عن النفس، متّهمًا لا بموجب الفعل، بل بسبب ردود فعل الجمهور. فهل يُعقل أن يُحمَّل المُغنّي مسؤولية ما يفعله المئات من المعجبين؟ أهو مطالب بأن يغني، ويراقب المسرح، ويتحكم في اندفاع الجمهور؟ لا شك أن ذلك غير منطقي. فالفنان، وهو على الركح، ليس حارس أمن، بل هو في مهمة فنية بحتة، يتحمّل المنظمون تبعات ما قد يشوبها من فوضى أو خروقات.
ثمّة واقع ينبغي الاعتراف به: الفتيات اللواتي ينجذبن إلى النجوم، ويُعبرن عن إعجابهن بحرارة، موجودات في كل المجتمعات، من هوليود إلى القاهرة، ومن بيروت إلى تونس. ولا يمكن لحادثة فردية أن تختزل أخلاق شعب بأسره، أو أن تتحول إلى محاكمة جماعية للمرأة، وكأنها بلا رقيب، بلا تربية، أو بلا كرامة.
ما وقع في تونس لم يكن مدعاة لفخر أو خزي، بل لحظة إنسانية في سياقها الفني. لكن التنمر بلغ درجة مقززة حين وُجهت الإهانات للجسد، والعائلة، والمرأة التونسية كقيمة. وهذا أمر لا يُسكت عنه. فالمرأة التونسية، بتاريخها النضالي، ومكانتها في التعليم، وفي الحياة العامة، لا تُقاس بواقعة حفلة عابرة. والذين يرون فيها مجرّد متفرّجة على الركح، يتجاهلون أنها صانعة ركح حقيقي في كل ميدان.
أما في مصر، فإن بيان النقابة قد حمل مبالغة في تقدير الموقف، وانزلق نحو موقف استعراضي، أراد أن يُبيّن “شهامة” مشهودة، لكن على حساب حرية الفنان ومسؤوليات التنظيم. التنظيم لا يكون بقرارات تأديبية، بل بتحصين الحفلات من التسيب، بوضع حواجز، وبإدارة الجمهور، لا بتكميم الطرب.
وإنّ أخطر ما في هذه الحوادث ليس فقط التهويل أو التضخيم، بل في تحوّل بعض المسؤولين عن القطاع الفني إلى أوصياء على الأخلاق العامة، يتجاوزون مهامهم في التنظيم والرعاية، ليتقمّصوا دور القاضي والواعظ في آن. وكأن الفن لا يُعاش بل يُراقَب، وكأن مهمّة النقيب أو المسؤول لم تعد حماية حرية التعبير والرقي بالذوق، بل ضبط الانفعالات وتقويم السلوكيات. تلك المزايدة الأخلاقية لا تليق لا بالمؤسسة الفنية ولا بالمجتمع، فالفن ليس خصمًا للأخلاق، بل أحد مرآتها، ومن يسعون إلى كبح الحياة بحجة الفضيلة، ينتهون غالبًا بتكميم ما تبقى من الفرح.