بقلم : أ . حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .
منذ السابع من يوليو عام 1965، لم يكن التلفزيون السعودي مجرد أداة لبث الصورة والصوت، بل كان شاهدا حيا على تاريخ وطنٍ بأكمله.
ستة عقود من البث والعطاء جعلت منه مرآة للتحوّلات الكبرى التي عرفتها المملكة، ورافعة ثقافية ساهمت في تشكيل الوعي الجمعي السعودي، وتوثيق ملامح الهوية الوطنية المتجددة.
بداياته الأولى، التي انطلقت من محطتي الرياض وجدة ببث أبيض وأسود لا يتجاوز عشر ساعات أسبوعيا، لم تكن متواضعة كما قد تبدو ، بل كانت نواة مشروع حضاري طموح، سرعان ما اتسعت رقعته ليغطي كامل أنحاء البلاد، من مكة والمدينة والطائف، إلى نجران وتبوك والجوف وعرعر. ورغم بدائية الوسائل حينها، حملت برامجه نبضا حيا، واحتضنت وجوها وأصواتا محفورة في الذاكرة، كعبد الرحمن يغمور، وبدر كريم، وحسين نجار، عبر برامج لا تُنسى مثل ” ركن الأطفال ” و ” القافلة ” و ” مسابقات رمضان ” .
مع منتصف السبعينات، مثّل دخول البث الملوّن قفزة نوعية جعلت الشاشة السعودية أكثر التصاقا بالحياة اليومية، وأكثر قدرة على توثيق المشاهد الاجتماعية والعمرانية والثقافية لمملكة كانت ترسم ملامحها الجديدة.
في تلك الحقبة، تحوّل التلفزيون إلى نافذة السعودية على العالم، ينقل شعائر الحج مباشرة عبر الأقمار الصناعية، ويغطي مؤتمرات و قمما، ويستضيف شخصيات من مختلف التخصصات.
وفي الثمانينات والتسعينات، تألّقت الشاشة السعودية بالدراما المحلية والخليجية والبدوية، التي جسّدت نبض الشارع السعودي بلغته ولهجته وهمومه. وفي الوقت نفسه، كانت البرامج الدينية والثقافية تشكّل منبرا للمعرفة ومنارة للاعتدال، تعكس روح الانفتاح والوسطية التي تميّز بها الإعلام السعودي.
ومع دخول الألفية، رغم المنافسة المتصاعدة من الفضائيات والمنصات الرقمية، استطاع التلفزيون السعودي أن يحافظ على مكانته ووقاره. توجه إلى التخصص، فأطلق باقة من القنوات النوعية مثل الإخبارية، الرياضية، الاقتصادية، الثقافية، قناة أجيال، قناة القرآن الكريم من مكة المكرمة، قناة السنة النبوية من المدينة المنورة، وأخيرًا قناة ” ذكريات ” التي انطلقت في 2020 لتعيد الحياة إلى أرشيف زاخر بالأصالة.
وكان عام 2012 نقطة تحوّل محورية، حين صدر قرار مجلس الوزراء بتحويل الإذاعة والتلفزيون إلى هيئة مستقلة تحت مسمى ” هيئة الإذاعة والتلفزيون ” . ومنذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة التطوير والتحديث، بقيادة كفاءات إعلامية واصلت البناء بخطى واثقة. وجاء تولّي الأستاذ محمد فهد الحارثي رئاسة الهيئة عام 2020 إيذانا بمرحلة جديدة من التجديد، انعكست في محتوى أكثر حيوية، وخطاب أكثر انفتاحا، وشاشة باتت أقرب إلى تطلعات المواطن، وأكثر انسجاما مع رؤية المملكة 2030، التي جعلت من الإعلام أحد ركائز النهضة الثقافية والحضارية.
من الأبيض والأسود إلى البث عالي الدقة، ومن مذيع يطل على جمهور محدود، إلى شبكة قنوات تصل إلى كل بيت، واصلت الشاشة السعودية تجديد عهدها مع الجمهور، مثبتة أنها ليست مجرد وسيط إعلامي، بل ركيزة في بناء الهوية، وشريك في تنمية الوطن.
واليوم، في زمن التحوّل الرقمي السريع، يشهد التلفزيون السعودي نقلة نوعية لافتة ، بفضل بنية تقنية متطوّرة ومحتوى رقمي عصري، يجعله منافسا قويا في المشهد الإعلامي الإقليمي والدولي. بفضل هذا التحديث المتسارع، استطاع أن يوازن بين الأصالة والابتكار، مؤكدا مكانته كمنبر إعلامي رائد، بكفاءة، وجودة، ومهنية عالية.



