
أوروبا و ساعة الحقيقة : سقوط الوهم وصعود القوة .
بقلم حذامي محجوب .
طالما قدمت أوربا نفسها نموذجا للعقلانية والأخلاق .قارة متحضرة تعيش وفق مبادئ القانون الدولي، ترفض الاعتراف بأن العالم محكوم بالقوة لا بالقوانين .
اعتقدت أنها تجاوزت مرحلة الحروب والصراعات ، وأن بإمكانها فرض النظام والعدالة الدولية عبر المحاكم والاتفاقيات، مستبدلة السياسة بالأخلاق والقانون .
لكنها اليوم، مع تراجع الهيمنة الغربية وصعود قوى جديدة، تجد نفسها عالقة في أزمة عميقة، حيث لا مكان للأوهام في عالم تحدده القوة قبل المبادئ .
على مدى عقود، عاشت أوروبا تحت المظلة الأمنية الأمريكية، مطمئنة إلى أن الحماية مضمونة دون الحاجة إلى بناء قوة ذاتية. فخورة بأنها تمثل نموذج الدولة ” الكانتية ” التي تؤمن بالقانون والأخلاق، مقابل الولايات المتحدة التي تتصرف وفق منطق “
هوبزي ” يرى أن العالم غابة تحكمها المصالح. كان الأوروبيون واثقين بأن السلام هو القاعدة، وأن القانون الدولي كفيل بردع من تُسول له نفسه تحدي النظام القائم.
لكنهم لم يدركوا أن هذا القانون لم يكن عالميًا، بل أداة غربية للحفاظ على النفوذ، وأن الدول العظمى لا تخضع له إلا عندما يخدم مصالحها.
اليوم، وبعد أن بدأت منظومة الهيمنة الغربية بالتداعي، يكتشف الأوروبيون الحقيقة المؤلمة : القانون بلا قوة تحميه مجرد حبر على ورق.
كانوا منشغلين ببناء هيئات و اقامة مؤسسات لمحاكمة الطغاة ، وإلقاء الدروس الأخلاقية على العالم، بينما كانت القوى الكبرى تواصل لعبتها الخاصة، متجاهلة هذه القواعد تمامًا.
حين تجرأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على زيارة منغوليا دون اكتراث بموقف الغرب، بدا وكأن أوروبا أصبحت مجرد كيان رمزي بلا تأثير فعلي.
لم يعد أحد يأخذ تهديداتها القانونية على محمل الجد، لأن رؤيتها بانه بإمكانها فرض قوانينها على العالم انهارت بمجرد أن بدأ ميزان القوة يميل لغير صالحها.
سقوط المحكمة الجنائية الدولية في فخ العجز لم يكن إلا انعكاسًا لسقوط الوهم الأوروبي بأن بإمكانه حكم العالم بالقانون والأخلاق وحدهما.
الصدمة الكبرى جاءت عندما قرر ترامب كشف المستور .
اذ أعلن بوضوح أن بلاده لن تكون بعد الآن درعًا يحمي أوروبا، وبدأ التفاهم مع بوتين، ليكشف بذلك حقيقة أن التحالفات لا تقوم على القيم بل على المصالح.
أدرك الأوروبيون حينها أن السياسة ليست حقًا وأخلاقًا، بل قوة وحماية.
الأخلاق قد تكون عنصرًا مكملًا، لكنها ليست الأساس.
من لا يملك القوة، لا يملك القدرة على فرض القانون، وهذه الحقيقة التي حاولت أوروبا إنكارها لعقود أصبحت الآن واضحة كالشمس.
اليوم، بينما يتقاسم رجلان لا يعترفان إلا بالمنطق الواقعي نفوذ العالم، تجد أوروبا نفسها أمام مأزق لم تكن مستعدة له.
انهيار الهيمنة الغربية لم يكن مجرد لحظة سياسية عابرة، بل كشف عمق الأزمة التي تعيشها القارة العجوز . الغرب الذي لطالما تعامل مع بقية العالم من موقع القوة والوصاية، وجد نفسه فجأة بلا حماية، وعاجزًا عن فرض كلمته.
لم يكن سكان شرق أوروبا مخدوعين بوهم السلام الدائم، فقد ظلوا يدركون أن العالم الحقيقي تُحسم فيه الأمور بالقوة، لا بالقانون. أما الغرب الأوروبي، الذي غرق في أوهام الأخلاق والقانون الدولي، فقد استيقظ متأخرًا على الحقيقة القاسية.
حين نظم الفلاسفة الليتوانيون مؤتمرًا في فيلنيوس بمناسبة الذكرى الـ300 لميلاد كانط، اختاروا له عنوانًا ساخرًا : “القانون الأخلاقي في داخلي، والطائرات المسيّرة فوق رأسي”.
لم يكن هذا العنوان مجرد نكتة فلسفية، بل تلخيصًا مريرًا لحالة أوروبا اليوم : قارة كانت تعيش في حلم السماء المرصعة بالنجوم على معنى القانون الاخلاقي الكانطي ،لكنها اكتشفت أنها محاطة بطائرات مسيّرة مستعدة لقصف أوهامها في أي لحظة.
الاستيقاظ الأوروبي كان قاسيًا لكنه ضروري. لم يعد بالإمكان التظاهر بأن العالم يسير وفق قواعد العدالة والمبادئ وحدها، ولم يعد هناك متسع للأحلام المثالية.
في عالم تحكمه المصالح والصراعات، من لا يملك القوة لا يستطيع حماية نفسه، وأوروبا، إن أرادت البقاء، عليها أن تدرك أن السياسة ليست محكمة، بل ساحة صراع، وأن القوة ليست خيارًا، بل شرطًا للبقاء .
1 Comment
مقال تحليلي ممتاز