38°C تونس
January 13, 2025
“الحب في الإسلام: روح الايمان وجوهر الحياة “.
أراء وأفكار

“الحب في الإسلام: روح الايمان وجوهر الحياة “.

ديسمبر 13, 2024

بقلم أ. محمد بن حمودة

الحبّ هو جوهر الحياة الإنسانية وأحد أعظم القيم التي ترتقي بالإنسان وتُهذّب روحه. في الإسلام، يتجاوز الحب كونه شعورًا عابرًا ليصبح منهجًا شاملًا يجمع بين الإيمان بالله، والرحمة بالناس، والعدل في التعامل. الحب في الإسلام يبدأ من العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ فهو الحب الأسمى الذي يُشبع الروح ويهدي القلب. قال الله تعالى: “يحبهم ويحبونه”، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم بقوله: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين”.

حب الله ورسوله هو الذي يمنح الإنسان السكينة الحقيقية، وهو الذي يوجّهه نحو الطاعة والرضا، ليجعل حياته مليئة بالمعاني الروحية العميقة. وحب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان نموذجًا للرحمة والعدل، ليس مجرد محبة لشخصه، بل اقتداء بسنته وسيرته في العطاء والإحسان. ولم يكن حب النبي مقتصرًا على أمته فقط، بل شمل عائلته وأقرب الناس إليه.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا في حبّه لزوجاته، وهو القائل: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي). وكان حبه للسيدة خديجة رضي الله عنها مثالًا في الوفاء والإخلاص؛ فقد ظل يذكرها بخير بعد وفاتها، ويرسل الهدايا إلى صديقاتها، وكان يقول: “إني قد رزقت حبها” (رواه مسلم).

أما مع أبنائه، فقد تجلى حبه وحنانه في كل تفاصيل حياته. كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحب لابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وكان إذا دخلت عليه قام إليها فقبّلها وأجلسها في مكانه. كانت فاطمة تُكنّى بـ”أم أبيها” من شدة حبها واهتمامها به، وكان هو كذلك يعاملها بحب واحترام عظيمين، مما يعكس أسمى معاني العلاقة الأسرية.

ولا يتوقف الإسلام عند حب الله ورسوله فقط، بل يوسع مفهوم الحب ليشمل علاقة الإنسان بالآخرين. الحب بين البشر ليس خيارًا بل ضرورة، فهو الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات السليمة. عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”، كان يضع قاعدة ذهبية لبناء مجتمع متماسك تسوده الألفة والمودة. الحب بين الناس ليس مجرد كلمات، بل هو تصرفات يومية تعبر عن الإيثار، والحرص على الخير للآخرين، وحسن الظن بهم.

هذا الحب الذي يدعو إليه الإسلام لا ينحصر في العلاقات الشخصية، بل يمتد ليشمل حتى الغرباء، فيحث المسلم على الإحسان للناس كافة، بغض النظر عن دينهم أو جنسهم، لأن الحب الحقيقي لا يعرف حدودًا.

على مر العصور، كانت للفلاسفة والمفكرين المسلمين تأملات عميقة في مفهوم الحب. ابن حزم الأندلسي، في كتابه طوق الحمامة، وصف الحب بأنه اتصال بين النفوس العاقلة، يرى أن الأرواح تتلاقى وتتآلف بفعل هذه القوة الخفية التي تجعلها تقترب من بعضها البعض. أما ابن رشد، فقد نظر إلى الحب على أنه سعي نحو الجمال والكمال، وقال إن الحب يدفع الإنسان للارتقاء بنفسه والاقتراب مما هو خير وأسمى. ومن منظور فلسفي آخر، قال أحد فلاسفة المعتزلة إن “الحبّ علة للعدل”، بمعنى أن الحب يجعل الإنسان عادلًا مع من يحب، فلا يظلمه ولا ينحرف عن الحق معه.

ومن أجمل ما قيل عن الحب، ما عبّر عنه جلال الدين الرومي بقوله: “الحب هو الجسر بينك وبين كل شيء”. الحب بالنسبة للرومي ليس مجرد عاطفة، بل هو طاقة روحية تصل الإنسان بالعالم من حوله، لتجعله يرى الجمال في كل شيء، حتى في الصعوبات التي تواجهه.

لكن في عالمنا اليوم، الذي تسوده العزلة الرقمية، أصبح الحب الحقيقي شيئًا نادرًا. وسائل التواصل الاجتماعي، رغم قدرتها على تقريب المسافات، عززت مشاعر الحقد والكراهية والتنمر، وعمّقت فجوة العلاقات الإنسانية. أصبحنا بحاجة ماسة إلى إعادة إحياء قيمة الحب، ليس فقط كعاطفة، بل كمنهج حياة.

الحب يمكن أن يكون بسيطًا كابتسامة عابرة أو كلمة طيبة تلامس القلب. فلنُجدّد التزامنا بهذه القيمة العظيمة، ولنكن كما قال الرومي: “كن كالشمس في الرحمة، وكالنهر في الكرم، وكالليل في التواضع”. فالحب هو الرسالة التي يمكن أن تجمع القلوب وتُصلح النفوس وتعيد للمجتمع تماسكه وإنسانيته. لننشر الحب حيثما كنا، فهو المفتاح لعالم أكثر سلامًا ورحمة.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *