الخطاب الديني في العالم الافتراضي: مخاوف التطرف وسبل الوقاية
د. خالد التوزاني
من المؤكد اليوم في ظل هيمنة وسائل التواصل الجديدة، ظهور أنماط من السلوك الناتج عن طبيعة المحتوى الرقمي المهمين، حيث يتم توجيه المشاعر والأحاسيس والتأثير في المواقف والأفكار، وخاصة عند فئة الشباب الذين يستعملون مواقع الانترنيت بشكل متواصل ودائم، وهذا يعني أن الثقافة تعرف تحولات كبيرة، إذ لم يعد مصدرها الكتب كما كان في السابق، وإنما أصبح العالم الافتراضي هو المرجع لكل شيء.
وإذا كان الدين يحظى بالثبات بما أنه مقدس ومنزل على الرسل والأنبياء، وله صلة بالعبادات وهي توقيفية لا تتغير ولا يمكن تعديلها، فإن هيمنة العالم الافتراضي اليوم وسيطرته على عقول الشباب في العالم برمته، سواء العرب أو غيرهم، يؤدي إلى تشكّل رؤية عن الدين والتدين قد لا تكون مطابقة لما هو في الواقع، وخاصة انتشار عدد من المعتقدات والقضايا الدينية التي تصل بسرعة إلى عقول الشباب والناشئة فتؤثر في سلوكهم الديني والاجتماعي..
وأمام هذه الوضعية، قامت بعض الدول بإجراءات وقائية لتحصين هوية شعوبها، ومنها المملكة المغربية، والتي فيها مؤسسة إمارة المؤمنين وهي تقوم بدور حماية الملة والدين ورعاية الشأن الديني الروحي لعموم الشعب، خاصة أما تهديد بعض التيارات المتطرفة أو المتشددة، حيث لم يعد الخطاب الديني الرسمي كافياً بالطرق التقليدية كالكتب والمقالات والخطب والمواعظ والإرشاد والنصائح والتذكير، لأن الجيل الجديد من الشباب يعتمد في استمداد المعرفة على مواقع الانترنيت وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة بعد جائحة كورونا، بعد اكتشاف تجربة التعليم عن بعد، الشيء الذي فتح المجال أمام تيارات متطرفة تستقطب الشباب بطرق جذابة تعتمد الصورة والحركة وأنماط من الخطاب الذي يجد طريقه سهلا للوصول إلى أفئدة هؤلاء الشباب وعقولهم، ويوظف كل الإمكانات التقنية لتمرير خطابات متطرفة كالعنصرية والكراهية والتعصب والإلحاد الجديد والتمرد .. وغير ذلك من الأفكار التي تتناقض مع الثقافة المغربية وتُشكّل بداية لأشكال جديدة من السلوك الغريب عن المجتمع المغربي.
وهكذا، قامت مؤخراً وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية بخطوة رائدة، تنسجم مع التوجهات الجديدة للدولة المغربية، في تحديث البنية التحية وتطوير الأداء التقني لعدد من المؤسسات، حيث يتعلق الأمر برقمنة الخطاب الديني، عبر وضع المعطيات المرتبطة بالثوابت الوطنية وبالهوية المغربية في شبكة الانترنيت لتكون رهن إشارة مستعملي المواقع الالكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، وتأتي هذه المبادرة في سياق الجهود الرامية لوضع حد للتيارات الدخيلة التي تستهدف التأثير في شريحة عريضة من الشباب المغربي ودفعه للارتماء في أحضان التطرف أو الإلحاد أو الانحلال والتساهل، حيث يمكن لمعطيات المرتبطة بالخصوصيات المغربية أن يجيب عن الكثير من تساؤلات الشباب وتربطهم بتاريخهم ومقدساتهم.
وأمام تزايد نفوذ هذه التيارات المتطرفة وتعزيز حضورها الرقمي في مواقع التواصل الاجتماعي بأشكال متباينة وبوتيرة متصاعدة، كما يدل على ذلك حجم المنشورات الكثيرة وعدد المتابعين لتلك الصفحات المشبوهة، والتي يتم إدارتها من خارج المغرب في معظم الحالات وتستهدف استقطاب المغاربة لزرع بذور الشك في عقيدتهم أو هويتهم، وتوجيه تفكيرهم نحو ثقافة الإقصاء والعنصرية وتنمية خطاب الكراهية.. الشيء الذي يمكن أن يُهدد تماسك المجتمع المغربي وانسجامه، فضلا عن الإضرار بقيمه الإنسانية الأصيلة التي تشكل مصدر استقراره وأمنه.
ولقد كانت المملكة المغربية منذ سنوات على وعي بخطورة هذه التيارات الدخيلة، فعملت الجهات المسؤولة في أكثر من قطاع على اتخاذ جملة من الإجراءات لمواجهة هذا المدّ العنصري الهدّام والذي يروم مسخ هوية المغرب الثقافية والدينية والاجتماعية، وعلى رأس تلك القطاعات الأساسية تأتي وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، والتي بدأت في تنزيل خطة متكاملة لمواجهة هذه التيارات الدخيلة على بلادنا والغريبة عن ثقافتنا المغربية الأصيلة، وذلك منذ دعوة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى تأطير الحقل الديني بالمغرب مباشرة بعد حادث تفجيرات الدار البيضاء يوم 16 ماي 2003، حيث شكّلت خطوة استباقية ووقائية لمواجهة كل انحراف في العقيدة والهوية الإسلامية للمغرب والمغاربة، وتلتها مبادرات أخرى رائدة في هذا المجال، ولا تقل أهمية عن تنظيم الحقل الديني إعادة هيكلته، ثم أخيراً تأتي اليوم مبادرة جديدة وهي رقمنة الإرث البحثي والعلمي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث سوف تُمكن هذه الرقمنة من توفير مادة علمية غنية بمؤشرات الهوية المغربية والثوابت الدينية للمملكة، تضم مقالات وأبحاث ودراسات متنوعة، وهو ما يُبرز بوضوح حرص مؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب، على تعزيز قيم الهوية المغربية وصيانتها من كل انحراف، من خلال إحياء جملة من القيم؛ كالوحدة والتضامن والتعايش والتسامح والتواصل والانفتاح. وأيضاً تعزيز الجهاز المناعي للمغاربة بتشجيع البحث في الهوية المغربية وأبعادها المختلفة.
من المؤكد أن مشروع رقمنة الخطاب الديني يمثل اليوم ضرورة ماسة وحاجة ملحة لتحصين الثوابت الدينية للمملكة وحفظ هويتها، وهذا المشروع سوف يملأ فراغاً في الساحة الرقمية، من حيث تعزيز الرصيد الرقمي العالمي من القيم المغربية والثقافة الدينية القائمة على الثوابت الأصيلة للمملكة كالعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي ومؤسسة إمارة المؤمنين، والفتاوى المغربية التي تنسجم مع خصوصية المجتمع المغربي، ولها صلة بالمواطن المغربي في انشغالاته وظروفه، خلافاً للبيئات الأخرى المختلفة عن المغرب، ولذلك هذا المشروع اليوم ينبغي الاهتمام بدعمه وإبرازه ليكون إضافة نوعية أخرى على غرار مبادرات شبيهة أطلقتها مؤخراً وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ضمن هذا المجال وعلى رأسها منصة محمد السادس للحديث الشريف، ثم ما يضمه موقع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة من معطيات علمية ودينية مرتبطة بالمشترك الديني بين المغرب وإفريقيا.
إن تعزيز الرصيد الرقمي في الانترنيت بخطاب ديني مغربي منسجم مع الهوية المغربية وصادر عن مؤسسات علمية رسمية، يمكن أن يسهم بشكل كبير وهام، في صيانة ثوابت الهوية المغربية، وتحصين الشباب ضد المذاهب الضالة والتيارات المتطرفة والأفكار الهدامة، وخطابات العنصرية والكراهية، وبالمقابل سوف يتم تعزيز القيم المغربية الأصيلة، انسجاماً مع ما دعا إليه أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2015: “لا تسمح لأحد من الخارج أن يعطيك الدروس في دينك، ولا تقبل دعوة أحد لاتباع أي مذهب أو منهج، قادم من الشرق أو الغرب، أو من الشمال أو الجنوب، رغم احترامي لجميع الديانات السماوية، والمذاهب التابعة لها”، فالمقصود من هذا التوجيه السامي هو أن يتشبث المغاربة بقيمهم المغربية، فلا ينال منهم دعاة التفرقة شيئا. يضيف جلالته قائلا: “وعليك أن ترفض كل دوافع التفرقة، وأن تظل كما كنتَ دائما، غيروا على وحدة مذهبك ومقدساتك، ومعتزا بدينك وبانتمائك لوطنك”.
إن حماية الخصوصيات الدينية لكل بلد، تقتضي حضورا في شبكة الانترنيت، وتداولاً للمحتوى الديني الرسمي، حتى لا يبقى المجال حكراً على جهات غير رسمية قد تستغل هذا الفراغ الافتراضي وإمكاناته في التأثير وسرعة الانتشار، لتسيطر على قلوب الشباب وعقولهم، فتستخدمهم في زعزعة استقرار الأوطان أو الإساءة إليها أو إضعافها بصرف الشباب عن التعليم والتربية وإشغالهم بقضايا هامشية لا تفيد مجتمعاتهم بقدر ما قد تسيء إليها، ولذلك كانت خطوة المغرب رائدة في وضع المحتوى الديني المغربي في مواقع الانترنيت لتكون قريبة من الشباب أينما كانوا.