بقلم : ابوبكر الصغير
لا يجب أن ننسى أن البحر مؤلّف من قطرات، وأن في كل قطرة فيه ، تختزن المحيط كله : أخباره وأسراره ومعانيه. كذلك هي الحوادث الكبرى ، تبدو لحظة عابرة، لكنها تحمل في طياتها ارتدادات زلزالية تكشف ما وراءها.
كشفت تقارير أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، عمدا خلال زياراتهما الاخيرة الى الصين جمع الفضلات الشخصية وعدم ترك أي أثر بيولوجي في الدولة المضيفة.
لان الدرس واضح ، و العبرة قائمة من خلال ما ترويه الوثائق عن الحرب الباردة، حين أرادت المخابرات الأميركية التعرّف على الوضع الصحي لليونيد بريجنيف، زعيم الاتحاد السوفياتي بين 1964 و1982. استغلت واشنطن زيارته إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، فقامت بربط قنوات الصرف الصحي للحمام الخاص به في الفندق بشبكة جانبية، وجمعت في حاويات كل ما يلقيه جسده من بقايا، ثم أرسلته إلى مختبر سري لتحليل تركيبته والكشف عن حقيقة وضعه الصحي. منذ تلك الحادثة، أدرك قادة العالم أنّ مخلفاتهم قد تتحوّل إلى وثائق استخباراتية ، فأصبح من مهمات أجهزة الأمن ضمان إتلافها أو إعادتها إلى الوطن الأم.
حماية الرئيس، في أي دولة، ليست وظيفة عادية، بل المهمة الأعقد والأخطر، التي يكلف بها خيرة رجالات الاستخبارات والأمن، وحتى وحدات خاصة من الجيش.
لنا في تونس شواهد حيّة. مايزال الكثير يذكر إقالة عبد الرحمان بلحاج علي، المدير الأسبق للأمن الرئاسي في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، وهو الرجل الذي أدهش من عرفه بسعة معارفه، وثقافته الموسوعية، والأهم انضباطه وولاؤه.
أتذكّر حادثة تعكس صرامة البروتوكول : كان بن علي قد أمضى أياما في قصر الحمامات، لكنه استيقظ فجأة فجر أحد الأيام وقرر العودة إلى مكتبه في قرطاج.
غير أنّ تأخيرا بسيطا في تجهيز السيارة الرئاسية أثار غضبه، لأن القواعد الأمنية تقتضي أن تكون كل وسائل النقل : سيارة، إسعاف، بارجة، مروحية وحتى الطائرة الرئاسية ، على أهبة الاستعداد في كل لحظة.
أذكر أيضا ما عشته شخصيا في العاصمة أديس أبابا خلال قمة أفريقية. في يوم الافتتاح الرسمي، تعرض موكب الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال، فاضطر كثير من القادة إلى المغادرة، ومن بينهم الرئيس بن علي.
حينها جاءنا اتصال عاجل بضرورة التوجه فورا إلى المطار، وكانت المفاجأة أن الطائرة الرئاسية التونسية، التي كان من المفترض أن تقلع بعد يومين، جاهزة بطاقمها الكامل، وما إن صعد الرئيس حتى أقلعت دون انتظار، تاركة وراءها بعض المسؤولين والمرافقين يجرون خلفها على المدرج، لكن دون جدوى.
القاعدة صارمة : الرئيس أولًا، والبقية تفصيل.
هذه الشواهد تؤكد أن عالم الاستخبارات شبكة معقدة، محكمة الأسرار، قلّما يُسمح لأحد بلمسها أو التغلغل في دهاليزها.
لذلك، كان من أخطر القرارات التي اتُّخذت في تونس بعد 14 جانفي 2011، وبخلفية مريبة، حلّ مصالح الاستخبارات، ما فتح الباب أمام فوضى ما زلنا ندفع ثمنها إلى اليوم .

1 Comment
مقال ممتاز عن عالم السياسة و المخابرات