بقلم : أ. حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .
في زمن تتزاحم فيه الأزمات وتتشابك فيه المصالح، يتجلّى نوعان من الخطاب السياسي : خطاب الضجيج و الشعبوية وخطاب الفعل و العمل .
الأول يكتفي بالصراخ ، بالشعارات المجلجلة، وبالعروض الرمزية التي لا تتجاوز حدود الشاشات ومواقع التواصل .
والثاني، خطاب هادئ، صبور، يعمل بصمت داخل غرف التفاوض، يحسب حساب كل كلمة، ويعرف أن التاريخ لا يخلّد من يصرخ، بل من يغيّر المعادلات على الأرض.
هناك فئة تتوهم أن رفع الصوت بديلا عن القرار، وأن الشتيمة دبلوماسية، وأن تحويل السياسة إلى استعراض غضب يمنحها صفة البطولة.
بينما الحقيقة البينة و الواضحة أن هؤلاء ليسوا سوى جمهور متفرجين على مسرح التاريخ، يجلسون في المقاعد الخلفية يوزّعون التهكمات و الاساءات ، غير مدركين أن الخيارات الاستراتيجية تُبنى على الدماء والتضحيات والحسابات الدقيقة، لا على ضوضاء المقاهي و أرصفة الشوارع و صراخ الساحات .
السياسة ليست مسرحية، ليست حفلا تنكريا لتسجيل مشاهد بطولية وهمية زائفة.
انّ رفع الشعارات أو تلطيخ الأصابع بالدماء الافتراضية أو شتم القادة و الزعماء لا يغيّر شيئا.
التاريخ لا يمنح وسامه لمن يملأ الفضاء صراخاً، بل لمن يتحمّل المسؤولية ويدفع كلفة القرار.
أولئك الذين يسخرون من السلطة الفلسطينية، أو يطلقون الاتهامات جزافاً ضد قادة العرب، يتجاهلون أن الشرعية تُبنى بالفعل لا بالصوت، وأن الإسهام في حل الأزمات لا يكون عبر بث الفوضى والتشكيك، بل عبر مبادرات ملموسة تحفظ الاستقرار وتقدّم الدعم للشعوب . والأخطر أن هذه الحملات الصاخبة تُسيء لعلاقات دولهم ، تؤجّج الأوضاع بدل أن تفتح أبواب الحل .
الغريب كذلك أن سهامهم لا تتجه فقط إلى أشخاص، بل إلى دول عربية محورية كالسعودية، مصر، الأردن، المغرب، والإمارات، حتى الجامعة العربية نفسها.
كأنهم يتعمّدون نسيان الدور التاريخي والواقعي لهذه الدول في حماية مصالح الأمة وصون استقرارها ودعم قضاياها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
خذوا مثالا واضحا : المملكة العربية السعودية. انها دولة لا تحتاج إلى المزايدات، لأنها تعمل على الأرض بجهود يراها العالم كله.
من وقف إطلاق النار في غزة إلى المساعدات الإنسانية عبر مركز الملك سلمان للإغاثة ، حيث تتدفّق الاف الأطنان من الغذاء والدواء والإيواء.
السعودية لا ترفع شعارا لتتباهى به ، بل تفتح جسور الحوار بين القوى الكبرى، توازن بين واشنطن وموسكو، تثبت أن السياسة ليست خطابات مشتعلة بل إدارة دقيقة للأزمات.
ولا تقف الصورة عند السعودية وحدها. المغرب أرسل مساعدات عاجلة، الإمارات أقامت جسرا جويا و مستشفيات ميدانية، مصر تفتح المعابر وتدير التوازنات كوسيط استراتيجي و تعالج الاف الغزيين ، الأردن يساند و يدعم فلسطين سياسيا وإنسانيا ويحمي حقوق شعبها التاريخية.
هذه الدول لا تصرخ كثيرا ، لكنها تعمل بصمت وتترك أفعالها تتحدث .
انّ السلام لا يُبنى على الهتاف، بل على قرار صعب، و صبر طويل، وإرادة صادقة. الوطنية ليست في رفع الصوت، بل في تحمل المسؤولية، في مد يد العون، وفي صناعة الاستقرار.
التاريخ لا و لن يذكر من صرخوا حتى بُحّت أصواتهم، بل من أنجزوا حتى غيّروا وجه العالم .
الفرق بين الضجيج والعمل واضح : الأول يثير الغبار ثم يتلاشى… والثاني يكتب سطور التاريخ.