تونس 25°C

12 سبتمبر 2025

تونس 38°C

12 سبتمبر 2025

أوروبا تُسلّح سياساتها : حين يتحوّل الأمن إلى عقيدة دولة .

بقلم: أ . حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .

لم تعد عبارة ” عسكرة الحدود ” مجرّد شعار يتردّد في دهاليز الاتحاد الأوروبي، بل أصبحت واقعا مؤسّسا تتقاطع فيه السياسات الأمنية مع الخيارات الاستراتيجية.
ما كان يدار في الظل، أصبح سياسة علنية ، وما كان يُبرَّر بالخوف من الهجرة غير النظامية ، صار غطاء لتوسيع رقعة العسكرة حتى شملت كل مفاصل القرار السياسي.
في السنوات الأخيرة، ضخّت الدول الأوروبية استثمارات هائلة في تقنيات الرقابة والتحكّم : من الطائرات المسيّرة والرادارات ثلاثية الأبعاد، إلى المجسّات البحرية والذكاء الاصطناعي القادر على تعقّب الوجوه وتحليل الحركات. وبين مراكز المدن وحدودها القصوى، يُعامل المهاجر كتهديد أمني لا ككائن بشري، وتتوسّع صلاحيات الأجهزة الأمنية حتى تُزاحم الدولة المدنية ذاتها. أوروبا اليوم تتأرجح بين عسكرة الداخل وتكنولوجيات الردع على التخوم.
لكن التحوّل الأخطر لا يكمن فقط في الأدوات، بل في جوهر العقيدة السياسية. فالعسكرة لم تعد مقتصرة على الجانب الأمني، بل تمدّدت إلى عمق الخيارات الاقتصادية والجيوسياسية.
في فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون بوضوح غير مسبوق عزمه مضاعفة الميزانية العسكرية من 32 مليار يورو في 2017 إلى 64 مليارًا بحلول 2027، رغم الأزمة المالية الخانقة التي تُجبر حكومته على اقتطاعات قد تصل إلى 40 مليار يورو. وفي بريطانيا، ارتفع الإنفاق الدفاعي إلى أعلى مستوياته منذ نهاية الحرب الباردة، متجاوزا 2.6% من الناتج المحلي. أما ألمانيا، فهي تسير على الطريق نفسه.
هذا الاندفاع نحو التسلّح لا يُختزل فقط كردّ فعل على الحرب في أوكرانيا، بل هو انعكاس لاهتزاز الثقة في نظام عالمي بات يتهاوى. حتى الرئيس الفرنسي أقرّ بأننا دخلنا عصر ” غياب القواعد ” وهيمنة ” قانون الأقوى ” . أوروبا، التي كانت تفاخر يوما بتصدير ثقافة السلم والدبلوماسية، باتت تُعيد ترتيب أولوياتها تحت مظلّة الردع والقوة الصلبة.
أما التحالف العسكري مع الولايات المتحدة، فلم يعد كافيا لطمأنة الأوروبيين. ترتفع اليوم أصوات تطالب ببناء مظلة نووية أوروبية مستقلة، في ظل امتلاك فرنسا وبريطانيا لترسانتين نوويتين، وإن كانتا محدودتين، تلوّحان بإمكانية توسيع نطاق الحماية لتشمل باقي دول الاتحاد. الحديث عن ” النووي الأوروبي ” لم يعد محض خيال، بل تحوّل إلى ورقة تفاوض في عالم تملك فيه واشنطن وموسكو أكثر من 90% من الرؤوس النووية، وتسعى فيه بكين سريعًا لفرض نفسها كقوة ثالثة.
لكنّ الخطر لا يكمن فقط في عدد الرؤوس النووية، بل في آليات استخدامها. فالثورة التكنولوجية تفتح الباب أمام تسليح الذكاء الاصطناعي، وتحويل البرمجيات إلى أزرار حرب. في هذا السباق، يكفي خلل تقني أو خطأ في خوارزمية معقّدة لإطلاق كارثة نووية دون أي قرار بشري مباشر.
أوروبا لا تستعد فقط لحروب المستقبل، بل تُعيد صياغة مفهوم الدولة والسيادة على أساس القوّة. ومع تضخّم ميزانيات الدفاع على حساب التعليم والصحة، تصبح الدولة أشبه بثكنة أكثر منها مدينة. في مثل هذا السياق، يغدو الحديث عن السلم مجرّد صوت خافت وسط ضجيج الأسلحة.
أوروبا اليوم لا تُصدّر القيم، بل تُصدّر السلاح. لا تفاوض، بل تُهدد. إنها لحظة عسكرة السياسة… حين يتحوّل الخوف من المجهول إلى استراتيجية، والقوّة إلى اللغة الوحيدة في كتاب السيادة الجديد.

اقرأ أيضاً

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قبل أن تذهب

اشترك في نشرتنا الإخبارية وكن على اطلاع دائم بالأحداث العالمية