بقلم : أ – حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .
بعد صمتٍ امتد لسنوات ، عاد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي إلى واجهة المشهد السياسي بخطابٍ حادّ في مضمونه وهادئٍ في أسلوبه ، حاملا معه رسالة تتجاوز حدود النقد إلى دعوة صريحة لإعادة التفكير في مستقبل الدولة الإيرانية .
ظهوره الأخير، الذي تصدّر الصفحات الأولى للصحف الإصلاحية ، لم يكن مجرد عودة رمزية إلى دائرة الضوء ، بل موقفٌ مدروس في لحظة دقيقة تمر بها إيران داخلياً وخارجيا .
في كلماته ، بدا خاتمي وكأنه يوجّه سهامه إلى ثقافة التمجيد الوطني الفارغ ، حين شدّد على أن الشعارات ، مهما كانت وطنية أو ثورية ، لا يمكن أن تُنقذ الدول من أزماتها ولا أن تُعالج أوجاع شعوبها.
أشار إلى أن إيران أهدرت سنوات طويلة في ملاحقة أوهام سياسية واقتصادية تحت غطاء الهتافات ، بينما كانت دول مجاورة ، أقلّ منها ثروة وموارد، تحقق قفزات نوعية في مجالات السياحة والصناعة والاقتصاد المعرفي.
لم يكن ظهور خاتمي مصادفة . فالرجل، الذي يُعدّ أحد أبرز رموز التيار الإصلاحي، يدرك أن إيران تقف اليوم على مفترق طرق بين الاستمرار في السياسات القديمة أو الانفتاح على مقاربة واقعية تنقذ البلاد من أزماتها المتراكمة . ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية وإعادة فرض العقوبات الدولية وتآكل الثقة الشعبية، بات من الواضح أن الخطابات الرمزية لم تعد تقنع أحدا .
في هذا السياق، يمكن قراءة خطابه كـ تحذير ناعم للقيادة الحالية من مغبة التمادي في تكرار أخطاء الماضي ، وكأنه يقول إن ” الإصرار على الشعارات لا يُنتج سوى مزيدٍ من العزلة والانكماش ” .
اختار خاتمي توقيتا بالغ الحساسية : احتقان داخلي، وأزمة اقتصادية خانقة ، وتململ اجتماعي متزايد.
يدرك الرئيس الأسبق أن صوته الإصلاحي ما يزال قادراً على التأثير في الأجيال الجديدة والمثقفين الذين يطالبون بإصلاحات حقيقية ، لا ببيانات تعبّر عن ” انتصارات رمزية ” . فبين جيل يائس من وعود لم تتحقق ، وآخر يبحث عن دور لإيران في العالم الحديث، يأتي صوت خاتمي ليذكّر بأن الزمن لا يرحم من يعيش في الماضي .
في الداخل، وجّه خاتمي خطابه إلى الإصلاحيين المحبطين وإلى الشعب الذي ما يزال يعلّق الأمل على التغيير السلمي والعقلاني .
أما في الخارج، فقد التُقطت كلماته على أنها إشارة انفتاح محتملة ، ورسالة إلى العواصم الغربية مفادها أن داخل النظام الإيراني ما يزال هناك تيارٌ يطالب بالتوازن بين الهوية الوطنية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية.
لم يكتفِ خاتمي بالنقد ، بل قدّم مقارنة واقعية ومؤلمة بين إيران ودول في المنطقة استطاعت ، رغم محدودية إمكاناتها، أن تحقق تنمية اقتصادية متقدمة عبر التخطيط والعمل الجاد، لا عبر الشعارات.
أراد أن يقول إن إيران تملك كل شيء لتكون قوة مزدهرة : الثروات الطبيعية، والعقول المبدعة ، والإرث الحضاري العميق ، لكنها تُهدر هذه الفرص حين تضع السياسة فوق التنمية ، والشعار فوق الإنسان .
في عمق الرسالة، يظهر تلميحٌ موجّه إلى الرئيس مسعود بزكشيان ، الذي انتخبه الإيرانيون على أمل إصلاحٍ فعلي، لكنه ، حتى الآن ، لم يخرج من عباءة المحافظين .
يخاطبه خاتمي دون أن يُسمّيه : الإصلاح ليس في تكرار الخطاب ذاته، بل في كسر الجمود وإطلاق طاقات المجتمع نحو مزيد التنمية والاستقرار. فالأوطان لا تُبنى على الأناشيد ، بل على العدالة، والابتكار، والعمل الجاد.
إنّ عودة محمد خاتمي إلى الساحة ليست مجرد حدث سياسي ، بل إشارة فكرية إلى تحوّل في المزاج الإيراني. فحين يتحدث من دعا يوماً إلى ” حوار الحضارات ” عن فشل الشعارات، فإنّه يعلن، ضمنيا ، نهاية مرحلة وبداية أخرى عنوانها الواقعية والعقلانية . وربما، في العمق، كان يقول لرفاقه في الحكم : ” الأمم لا تنهض بالهتاف… بل بالتفكير والعمل ” .



