تونس 17°C

11 نوفمبر 2025

تونس 38°C

11 نوفمبر 2025

الشرع يقود التحوّل السوري : من شعارات المقاومة إلى واقعية الدولة.

بقلم : أ. حذامي محجوب ( رئيس التحرير ) .

لم يكن دخول أحمد الشرع إلى دمشق حدثاً عاديا ، بل لحظة فاصلة في مسار بلد أنهكته الشعارات والدماء.
ارتفعت التحذيرات يومها من ” تطرّف محتمل ” أو ” تحويل العاصمة إلى إدلب جديدة ” ، لكن سرعان ما اكتشف الجميع أن الرجل لم يأتِ ليعيد إنتاج الماضي ، بل ليحاول إنقاذه من نفسه .
دخل الشرع دمشق كرجل دولةٍ لا كمناضل عائد، حاملا وعيا استثنائيا بلحظةٍ تتطلب فهما عميقا لمعادلات القوة وتحوّلات الزمن.
بدا الشرع مدركا أن مرحلة الأيديولوجيات الصلبة انتهت، وأن الشعوب لم تعد تصدّق من يبيعها الوهم باسم المقاومة أو العقيدة. وهكذا، ومع خروجه إلى المسرح السياسي، بدا وكأن صفحة بشار الأسد تُطوى أخيرا ، لتبدأ سوريا رحلة بحث جديدة عن خلاصٍ واقعي، قاعدته التنمية لا الولاء، والاقتصاد لا الشعارات.
ما يميز الشرع أنه لم يقع أسير ماضيه الجهادي .
يتحدث بلغة المستقبل، ببراغماتية هادئة تجمع بين التجربة والوعي بالتاريخ . يدرك أن العالم تغيّر، وأن استعادة سوريا لعافيتها لن تكون عبر الهتافات ، بل عبر فهمٍ ناضج لتوازنات الإقليم والعالم. لقد تعلّم من تجارب الآخرين، من بغداد وطهران إلى الخرطوم وغزة، أن الأمم التي تُقاد بالشعارات لا تبني أوطانا ، وأن الهويات حين تتحوّل إلى سلاح ، تدمّر أكثر مما تحمي.
على الصعيد الدولي ، يتحرك الشرع بخطوات محسوبة تجمع بين الانفتاح والحذر.
أعاد لسوريا حضورها المفقود عبر دبلوماسية نشطة شرّعت أبواب دمشق أمام العالم من جديد .
التقى بمعظم القادة العرب، وتواصل مع قوى كبرى كواشنطن وموسكو، ساعيا إلى علاقات متوازنة تحفظ مصالح بلاده وتعيدها إلى الصف العربي.
يولي اهتماما خاصا بدور المملكة العربية السعودية ، مدركا أن استقرار المنطقة لا يتحقق دون شراكة إيجابية مع الرياض ، حيث التكامل هو البديل الوحيد عن التصادم.
تشير المعلومات إلى لقاء مرتقب بين الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهر المقبل ضمن مشاورات حول مستقبل الشرق الأوسط .
الشرع اليوم لا يرفع راية بعثٍ جديد ولا يتغنى بمقاومةٍ أيديولوجية ، بل يرفع شعار ” الإنقاذ الوطني ” .
فهو يدرك أن بناء الدولة يبدأ من رغيف الخبز قبل صناديق الاقتراع ، ومن كرامة المواطن قبل ترميم الجدران. فالديمقراطية لا تُقام على أنقاض الجوع، ولا ينهض وطنٌ مثخن بالدمار دون رؤية اقتصادية واضحة تُعيد الثقة بالحياة.
أعمق ما في تجربة الشرع هو صفاؤه في قراءة التحوّلات الدولية .
يفهم أن زمن المحاور قد انتهى، وأن مصلحة سوريا تكمن في الانفتاح لا الاصطفاف.
يعرف أن لغة المصالح ليست نقيض الوطنية، وأن الكرامة الحقيقية تُصان بالعمل لا بالمزايدة.
لقد رأى سقوط الأيديولوجيات الكبرى من حوله ، من البعث إلى الناصرية إلى الإسلام السياسي ، فاختار أن يتعلّم من انهيارها لا أن يكرّره .
ومن هنا جاء نهجه البراغماتي الذي يجمع بين المبدأ والمرونة ، وبين الواقعية والطموح.
يرى الشرع في التجربة الخليجية والآسيوية نموذجاً يُحتذى : نمو اقتصادٍ يعزز الاستقرار، لا حرب شعارات تزرع الخراب.
وهو بذلك يقدّم وجها جديدا للقيادة السورية ، قيادة واعية تسعى إلى التوازن بين جذور الأمة ومتطلبات العصر، بين الإرث الحضاري والعقل التكنوقراطي.
إن سوريا التي يرسمها أحمد الشرع ليست دولة مقاومة فقط ، بل دولة ناهضة ، لا تكتفي بالبقاء ، بل تتطلع إلى النهوض من تحت الرماد.
إنها سوريا الدولة لا الجبهة، وسوريا المواطن لا الحاكم.
ومن هنا يمكن القول إن الشرع لا يقود فقط مسار التعافي من الحرب ، بل من تاريخٍ طويل من العزلة والجمود.
يريد أن يعيدها إلى الخريطة لا كتابعٍ في محور، بل كفاعلٍ في الإقليم ، تحكمها الكفاءة ويقودها الوعي، وتنهض فيها إرادة الحياة من تحت الركام .

اقرأ أيضاً

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قبل أن تذهب

اشترك في نشرتنا الإخبارية وكن على اطلاع دائم بالأحداث العالمية